كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة.
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض، كيف يكذب؟.
ودعى أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال: إنى صائم ثم رأوه يأكل. فقالوا: ألم تقل: إنى صائم. فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صِيامَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهرِ».
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله تعالى. فيظن أنه أراد يومه والذى يليه، وإنما أراد يومى الدنيا والآخرة.
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ فقال له: قل والله ما أبصر إلا ما سددنى غيرى، يعنى إلا ما أبصرك ربك.
وقال حماد عن إبراهيم في رجل أخذه رجل، فقال: إن لى معك حقًا. فقال: لا. فقال: احلف بالمشى إلى بيت الله، فقال احلف بالمشى إلى بيت الله واعن مسجد حَيِّك.
وذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلًا كان يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح. فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام. فقال الرجل: أف أف. وسلمت بغلته. وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها.
وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه: فيسأله عنه، فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيئ، يعنى ب ما: الذى.
وقال عقبة بن المعيرة: كنا نأتى إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا. ولا لنا به علم ولا في أي موضع هو. واعنوا أنكم لا تدرون أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد، وقد صدقتم.
وجاءه رجل فقال: إنى اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها، ويريدون أن يحلفونى أنها الدابة التي اعترضت عليها؟ فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكنًا. ثم احلف أنها الدابة التي اعترضت عليها.
وقال أبو عوانة عن أبى مسكين: كنت عند إبراهيم، وامرأته تعاتبه في جارية له، وبيده مروحة، فقال: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها. قال: أما رأيتمونى أشير إلى المروحة؟ إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها، وأنا أعنى المروحة.
وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبى: من حلف على يمين لا يستثنى، فالبر والإثم فيها على علمه. قلت: ما تقول في الحيل؟ قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال. فما كان من هذا ونحوه، فلا بأس به، وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله، أو يحتال في باطل حتى يموهه، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك.
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسى، ضرسى.
ووجه الرشيد إلى شريك رجلًا ليحضره، فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره، ففعل. فحبسه الرشيد، ثم أرسل إليه رسولًا آخر فأحضره، وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله. فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه، وعنى بذلك الرسول الثانى، فصدقه، وأمر بإطلاق الرجل.
وأحضر الثورى إلى مجلس المهدى فأراد أن يقوم فمنع، فحلف بالله أنه يعود، فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد، فقال المهدى: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل.
فأبعد الناس عن القول بها مالك، وأحمد، وقد سئل أحمد عن المروزى وهو عنده، ولم يرد أن يخرج إلى السائل، فوضع أحمد إصبعه في كفه، وقال: ليس المروزى هاهنا. وماذا يصنع المروزى هاهنا؟،.
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق ليطأن امرأته في نهار رمضان، فقال يسافر بها ويطؤها في السفر.
وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبى حكيم: حكى أن رجلًا سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر في رمضان؟ فقال له: اذهب إلى بشر ابن الوليد، فاسأله ثم ائتنى فأخبرنى، فذهب فسأله، فقال له بشر: إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر، فإذا كان وقت السحر، فكل، واحتج بقول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ المبَارَكِ» فاستحسنه أحمد.
قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه، بإظهار أنه سارق ووضع الصواع في رحله، ولم يكن كذلك حقيقة. لكن أظهر ذلك توصلًا إلى أخذ أخيه وجعله عنده. وأجزه الله سبحانه أن ذلك كيد، كاده سبحانه ليوسف، ليأخذ أخاه، ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء، وأن الناس متفاوتون فيه. فوق كل ذى علم عليم.
فصل:
قال منكرو الحيل:
الحيل ثلاثة أنواع:
نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه. وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع.
فإن الحيلة لا تذم مطلقًا، ولا تحمد مطلقًا، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه.
فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهى من ذوات الواو، وأصلها حولة فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد.
قال في المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى.
فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمرًا يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه.
فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقًا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسنًا كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحًا كانت الحيلة قبيحة. وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك. وإن كانت معصية وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك.
ولما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لا تَرْتَكبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محَاَرِمَ اللهِ تَعَالَى بِأَدْنَى الْحِيلِ».
صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود. وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهى مما يستحل بها المحارم.
ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم.
ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «الحرب خدعة» وقوله في الحديث الذي رواه الترمذى وغيره: «كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، إِلا ثَلاثَ خِصَالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اُثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُمَا، وَرَجُلٌ كَذَبَ في خِدْعَةِ حَرْبٍ».
ومن النوع المذموم قوله في حديث عياض بن جمار، الذي رواه مسلم في صحيحه: «أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِى إِلا وَهْوَ يَخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمِالِكَ».
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} [الأنفال: 62].
ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبى رافع، عَدُوَّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى قتلا، وقتل خالد بن سفيان الهذلى.
ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبى معبد الخزاعى لأبى سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، وردهم من فورهم.
ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعى ليهود بنى قريظة، ولكفار قريش والأحزاب، حتى ألقى الخلْف بينهم، وكان سبب تفرقهم ورجوعهم. ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك المكر، ينقسم إلى محمود ومذموم. فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده.
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر، مقابلة لهم بفعلهم، وجزاء لهم بجنس عملهم.
قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ والله خَيْرُ الْمَاكِرينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُون} [النمل: 50].
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين. قال تعالى: {وَأُمْلِى لَهُمْ إٍنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [الأعراف: 183] وقال تعالى: {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] وقال تعالى: {إنَّهُمْ يَكِيدُونّ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15- 16].
فصل:
إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولًا أو فعلًا مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره، أو إبطال حيلة محرمة.
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له. فيصير مخادعًا لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كائدًا لدينه، ماكرًا بشرعه، فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة.
وهذا ضد الذي قبله. فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى. ودفع معصيته، وإبطال الظلم وإزالة المنكر. فهذا لون، وذاك لون آخر.
ومثال ذلك: التأويل في اليمين، فإنه نوعان: نوع لا ينفعه، ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده، ثم حلف على إنكاره متأولا، فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس، والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين، بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين.
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله، ويخلصه من الإثم، وتكون اليمين على نيته.